مرت على أزمة انتخابات الرئاسة في “ساحل العاج”- كوت ديفوار- أكثر من عشرة أيام، وما زالت تتصدر نشرات الأخبار دون حل لها. البلاد أصبح لها رئيسان للجمهورية، ورئيسان للوزراء، وحكومتان وفي الطريق إلى “حرب أهلية” مدمرة أو حلول وسط مهدئة أو تدخل عسكري أجنبي يضعها تحت الحماية الدولية أو الإقليمية.
ورغم الفارق الضخم بين أهمية ساحل العاج في غرب إفريقيا، وأهمية مصر أو العراق أو أي بلد عربي آخر، إلا أن هناك دروسًا يمكن الاستفادة بها من أزمة ساحل العاج.
لقد تطورت الأزمة نتيجة إجراء انتخابات رئاسية حقيقية، تنافس فيها رئيس البلاد “لوران باغبو” الذي حكمها لفترات، ومنافس من الشمال ذي الأغلبية المسلمة “الحسن واتارا” الذي قاد التمرد الشمالي لفترة طويلة ثم تصالح مع الرئيس وشغل مناصب حكومية، ومعهم آخرون تقاسموا أصوات الجنوب ذي الأغلبية المسيحية مع باغبو؛ ما أدّى إلى فوز الحسن واتارا وأعلنت اللجنة العليا للانتخابات فوزه بالأغلبية البسيطة، وهو ما رفضه الرئيس “باغبو”.
وهذا هو الدرس الأول: ليس بمجرد إجراء انتخابات حقيقية تشرف عليها لجنة مستقلة أو شبه مستقلة وفيها تنافسية جادة بين شخصيات محل احترام المجتمع الأهلي والإقليمي والدولي يمكن إنهاء قضية “التداول السلمي على السلطة” بحيث يعترف الخاسر بفوز من استحق النجاح ويسلّم بالهزيمة دون مشاكل، ولا يتشبث بالسلطة إلى آخر رمق في حياته.
لقد اعتمد الرئيس على أمرين لإبطال النتيجة الحقيقية:-
الأول: المجلس الدستوري الذي أعلن إبطال النتائج وأعلن فوز “باغبو”؛ وبذلك أصبح لديه شبهة قانونية، ولو كانت واضحة الاحتيال، للبقاء في السلطة وعدم التسليم بالهزيمة.
الثاني: مساندة الشرطة والجيش الذي يضمن ولاءه منذ سنوات الحكم، والذي لم يكن جيشًا حقيقيًّا مهنيًّا، ولم يتحول إلى مؤسسة وطنية غير مرتبطة بالأشخاص ولا السياسة (وتحضرنا هنا مأساة عبد الحكيم عامر عقب الهزيمة الكبرى في 1967م؛ حيث أصبح الوضع لا يحتمل بقاء ناصر وعامر معًا فلا بد من ذهاب أحدهما ليبقى الآخر ويضمن ولاء الجيش له، فكان ذهاب عامر إلى رحاب الله ليبقى ناصر إلى حين).
ودخلت البلاد في أزمةٍ طاحنة، فلم يعترف أيٌّ من الرجلين بالهزيمة، وتشبث كلاهما بالنتيجة التي أعلنت بفوزه، وحاول كلاهما ممارسة دوره كرئيسٍ فعلي، فعيّن رئيسًا للوزراء واختار حكومة جديدة.
وعندما حاول الرئيس المنتخب “الحسن واتارا” حشد الشعب للاستيلاء على الإذاعة والتليفزيون، وهي تحت سيطرة خصمه اللدود، إذا بعشرات الضحايا يسقطون وتفشل المحاولة، ويقف الشعب متفرجًا ليس على استعداد لبذل دمائه والمزيد من الضحايا في تلك المهزلة الرئاسية، اكتفى الناس في ساحل العاج بأنهم أدلوا بأصواتهم تحت الرقابة الدولية وصوتوا لرئيسٍ جديد، وبقي عليه أن يستخلص السلطة والصولجان من يد منافسه.
وهذا درس آخر، فالشعوب لها طاقة وقدرات، ولا يمكن للساسة ولا للنخب أن تحملها فوق طاقاتها ولا أن تطلب منها ما لا تقدر عليه، وإذا لم تكن هناك عقيدة راسخة تدفع الشعوب إلى التضحية بالنفس والغالي والنفيس، فلن تحركها مجرد المصالح أو الخيارات السياسية.
حتى الشعوب التي صمدت طويلاً بسبب عوامل خارجية اكتشفت بعد سنوات حجم الخديعة التي تعرضت لها، وها هي “أوكرانيا” تضع زعيمة المظاهرات الشهيرة رهن السجن والمحاكمة بسبب تهم الفساد التي تلاحقها.
أما الشعوب التي حركتها عقيدة ما، وكانت على استعداد للتضحية فقد استطاعت النجاح في نهضتها والوصول إلى التغيير الحقيقي، ولنا مثالان واضحان في العصر الحديث: إيران وثورتها الشعبية التي أطاحت بعرش الشاه رغم الدعم الأمريكي والغربي له، والهند في انتفاضة اللاعنف بقيادة غاندي والتي تخلصت من الاحتلال البريطاني أثناء عنفوان الإمبراطورية، ومهما حدث بعد ذلك من تطورات سلبية في كلا البلدين، سواء بالعنف أو الانقسام أو التعصب إلا أن لحظة التغيير كانت في حاجةٍ إلى التضحية وليس مجرد المشاركة الهادئة، وهذه تحتاج إلى تربية وصبر.
عندما فشلت الحلول الوسط في ساحل العاج، ولم يتحرك الشعب لفرض إرادته التي أعلنها في صناديق الانتخابات، كان التدخل الخارجي لدعم رئيس ضد آخر.
أعلنت كافة القوى الخارجية- صاحبة المصلحة في البلاد- دعم “الحسن واتارا” ضد “باغبو”.
جاء الدعم من الأمم المتحدة وممثلها في ساحل العاج رغم أن قواتها العاملة هناك لم تتدخل حتى الآن، وأعلنت أمريكا في أكثر من مرة من البيت الأبيض ووزارة الخارجية دعمها لـ”واتارا”، وكذلك فرنسا والاتحاد الأوروبي، وتدخل الاتحاد الأفريقي ليعلن فشل الوساطة ودعم الرئيس المنتخب “واتارا”، وهكذا لم تبق جهة إلا وأعلنت رفضها لبقاء “باغبو” في السلطة اغتصابًا لها.
أعلن الناطق باسم “باغبو” رفضه لهذا التدخل الخارجي، وقال بجرأة شديدة إن الذي يختار رئيس ساحل العاج هم الناخبون في البلاد والمجلس الدستوري الذي أعلن فوز “باغبو” وليس الأمم المتحدة.
يواجه التدخل الأجنبي عوائق شديدة لفرض إرادة “المجتمع الدولي”، أو تصحيح النتائج وفق ما أعلنته اللجنة العليا للانتخابات.
أهم هذه العوائق هي: تجنب الحرب الأهلية التي تهدد المصالح الاقتصادية للأجانب، وإمكانية تعرض الجاليات الأجنبية الموجودة في “ساحل العاج” للخطر الشديد والموت على يد العصابات التي ستنطلق في حال الفوضى، وهذه الجاليات بعضها أوروبي لا يمكن التضحية بها، وتجدد النزاعات بين الشمال والجنوب التي تهدد الاستقرار في المنطقة كلها حيث تتداخل القبائل فتنتشر الصراعات في غرب إفريقيا كلها، وتمثل إفريقيا للغرب الآن ساحة للصراع بين القوى الكبرى، فرنسا وأمريكا، والغرب والصين، ولإيران دور في إفريقيا ووجود، كل تلك القوى ستتدخل بمد المتنازعين بالسلاح والمال وتدريب الرجال لتحقيق مصالحها على حساب الشعوب الأفريقية المسكينة.
هذا التدخل الأجنبي العسكري يحتاج إلى مظلة دولية بقرار من مجلس الأمن، ومن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما سترفضه الصين وروسيا في الغالب؛ لذلك لجأت إلى الضغوط الاقتصادية بحظر تمويل “باغبو” وتدخل البنك الدولي، والبنك المركزي لغرب إفريقيا، إلا أن أنصار “باغبو” يقولون إن ذلك سيؤدي إلى تأثر الدول المحيطة التي تتداخل اقتصاديًّا بنسبة 40% مع حكومة ساحل العاج.
فرنسا تهدد عن طريق وزيرة خارجيتها أن الوقت ينفد أمام مخرج مشرف للرئيس “باغبو” وهو يرد مع أنصاره أن المعركة لم تعد نتائج الانتخابات الرئاسية، ولكنها أصبحت معركة استقلال وطني، وعودة الاحتلال الفرنسي من جديد.
إذن هذا درس آخر يتعلق بالتدخل الأجنبي والدعم الخارجي لأي قوة سياسية محلية لا تستطيع فرض الإرادة الشعبية على الجميع، وغياب التوافق الوطني على قواعد واضحة لتداول السلطة عبر عملية ديمقراطية سليمة.
القوى الخارجية لا تبحث إلا عن مصالحها، وغالبًا ما تتضارب مصالح المتنافسين الخارجيين، وهم يبحثون عن عملاء ينفذون أجندتهم الخاصة وليس عن شركاء يمكن التعاون معهم لمصالح عليا إقليمية أو دولية، وهم يتذرعون بأية ذرائع ويبالغون فيها للتدخل في الشئون الداخلية للدول ومنها حماية الجاليات الأجنبية أو حماية حقوق الأقليات، أو ضمان حقوق الإنسان… إلخ.
والأمم المتحدة ليست كيانًا محايدًا كما يتصور البعض، بل تسيطر على مجلس الأمن فيها القوى الكبرى، والجمعية العمومية لا تملك سلطة لتنفيذ قراراتها، وما القرارات التي صدرت لصالح القضية الفلسطينية عنا ببعيد.
ولذلك فإن التعويل على الأمم المتحدة ليس مناسبًا باستثناء حالات معدودة في تاريخها، إذا أضفنا إلى تلك الدروس جميعًا أن منطقتنا بها اختلافات جوهرية عن غرب إفريقيا مثل وجود الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين والذي تحميه القوى الكبرى من غضبة الشعوب العربية وانتفاضة الشعب الفلسطيني وأن أراضيها تحوي ثروة البترول الذي هو عصب الحياة الحديثة حتى الآن، وأن تلك الشعوب العربية تمتلك قوة كامنة هي قوة العقيدة الإسلامية التي صنعت حضارة عظيمة وكونت إمبراطورية سيطرت على معظم أنحاء العالم لمدة ألف عام تقريبًا ودقت أبواب أوروبا من الشرق والغرب في فيينا والأندلس، وكادت تسيطر على أوروبا نفسها عرفنا أهمية تلك الدروس التي جاءتنا من أزمة ساحل العاج التي ما زال رئيسها السابق “باغبو” يتمسك بتلابيب السلطة إلى لحظة كتابة هذا المقال رغم تهديد تكتل دول غرب إفريقيا بإزاحته بالقوة العسكرية.